[ هذه المادة هي جزء من ملف خاص بعنوان "كبرت النكبة". وهو ملف متنوّع حول نكبة فلسطين تقوم "جدلية" بنشره.]
سجادة حمراء تمتد على طول أحد شوارع حي الشجاعية، الذي أضحى أثرا بعد عين عقب العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، وعلى جانبيها تخلو المساحات إلا من ركام يقبع هناك منذ عام يوم شاءت الحرب ولادته ووأد من راحوا ضحية الأمل. أذكر جيداً صباح مذبحة الشجاعية كأنه البارحة. كنت في طريقي للعمل أحد الصباحات حين رأيت جموعاً من الناس منهكين، شاحبي الوجه، حفاة الأقدام. لم أمتلك الجرأة ﻷطرح عليهم ولو سؤالاً من عشرات الأسئلة التي ازدحمت في رأسي. ما كان جليا بما لايدعو للشك، أنه لم يكن ﻷولئك وجهة محددة ولم تبدو عليهم رغبة في التوقف عن الزحف.
كلما مضيت في طريقي، ازدادت الجموع أكثر فأكثر ونسلت من مخيلتي الأسئلة.. كنت أحدق فيهم وفي لاوعيي ارتسمت صورتهم باﻷبيض واﻷسود، لأتنبه: من قال إننا في يومنا هذا لا نسافر بآلة الزمن؟ وكأن العيش في أعقاب نكبة الـ 1948 ليس كافياً، بل كان يتحتم أن نعيشها من جديد لتؤرشف نفسها على جدران ذاكرتنا بالألوان.
على خلاف الغالبية الساحقة من سكان غزة، لم يهجر أهالي الشجاعية، مواطنو غزة الأصليين، في أعقاب النكبة أو النكسة، إلا أن عام 2014 أبى إلا أن يسويهم بباقي اللاجئين منا... ذات المشهد وذات الخيمة وذات وكالة الغوث التي ما فتئت تعتاش على نكباتنا.
[ .تصوير تامر حمام. قطاع غزة، فلسطين المحتلة. خاص بـ"جدلية".]
منذ ذلك اليوم، وﻷول مرة منذ انتهاء العدوان في شهر آب الماضي، لم تكن الشجاعية وأهلها مزاراً أو متحفاً لالتقاط الصور وموضوعا لكتابة القصص والتقارير الصحافية. يوم 12 أيار، الذي أختير تزامنا مع مهرجان كان للأفلام، وقبيل ذكرى النكبة السابعة والستين بثلاثة أيام، كان يوماً ﻷهل هذه المنطقة المنسية وليس عنهم.
في مشهد أقرب إلى السريالية افترش المخرج الفلسطيني، خليل المزين، السجادة الحمراء التي تقود إلى شاشة عرض كبيرة حولت الحي إلى "سينما داخل سينما" كما أردف أحد الحاضرين..
[تصوير تامر حمام. قطاع غزة، فلسطين المحتلة. خاص بـ"جدلية".]
[تصوير تامر حمام. قطاع غزة، فلسطين المحتلة. خاص بـ"جدلية".]
[تصوير تامر حمام. قطاع غزة، فلسطين المحتلة. خاص بـ"جدلية".]
السجادة الحمراء، التي أفرجت سلطات الاحتلال عنها على حاجز إيريز، وصلت قبل ساعات قليلة من العرض.. ولدى فرشها أيقن الجميع أن للسجادة خصوصيتها بالفعل، فسوف تطأها هذه المرة، وعلى غير العادة، أقدام الفقراء والحفاة أو العاديين من الناس أو ربما "غير العاديين" خلافا لمن يفترشون سجاداتهم الحمر في المهرجانات العالمية.
أما شريط الافتتاح فله قصة أخرى، لم يجده القائمون على المهرجان في أسواق غزة، فتبرع أهل الشجاعية بما تبقى من ملابسهم وبعضها كان يخص شهدائهم ليصنعوا شريطهم بأنفسهم. عصام الحلو، أب لأحد عشر شهيداً، هو من قام بقص الشريط. أما الشاشة فقد علقت على جدارن بيت لم تستطع آلة الحرب النيل من كل أجزائه. شاشة تشع من ورائها أضواء مستوطنات من ظنوا أن الكبار سيموتون والصغار سينسون.
[تصوير تامر حمام. قطاع غزة، فلسطين المحتلة. خاص بـ"جدلية".]
العائلات بأطفالها، الذين وجدوا في عرض الأفلام خلاصاً من الدراسة للامتحانات النهائية، تجمهرت جميعاً أمام الشاشة. سادت حالة من البلبلة والضجيج على الأجواء حتى إطلالة عنوان الفيلم على الشاشة وظهور أبطاله، ليصبح الهدوء سيد المشهد. اتسعت العيون المحدقة في اتجاه واحد فقط، الشاشة. وفيما اصطفت جموع النساء وراء الشبابيك، أقامت أخريات مهرجانهن في الشوارع الفرعية ليتشاركن ما أعددن من طعام وضحكات.
[تصوير تامر حمام. قطاع غزة، فلسطين المحتلة. خاص بـ"جدلية".]
وقتذاك فقط، أحس أهل الشجاعية بأنهم امتلكوا شيئاً يخصهم، أن هذا مهرجانهم هم، ودافعوا عنه وكأنهم استحقوه. ففي كل لحظة كنت تراهم ينهرون من ينغسمون بالثرثرات الجانبية ويأمرون الآخرين بالجلوس حتى يتسنى لهم مشاهدة فيلمهم بسلام.
"أبو السجادة الحمراء" هكذا لقب أطفال الشجاعية المخرج خليل المزين وطاردوه كلما زارهم بأسئلتهم عن موعد جديد من الأفلام في حيهم. نعم، هم أيضاً كسائر العالم لم تسلبهم 67 عاماً من النكبة ولا حروب الستة أعوام الأخيرة الرغبة في ألا يكونوا أبطالاً ولو ليوم واحد، بل أن ينشدوا منبهرين لعوالم أخرى لا يستطيعون الوصول إليها إلا عبر شاشة السينما.
[تصوير تامر حمام. قطاع غزة، فلسطين المحتلة. خاص بـ"جدلية".]